تتعثر فى خطواتها الى المكتب , البنطلون يكبر مقاسها بنمرتين على الأقل , حافته تمتد أسفل حذائها , تعوق حركتها , تحاول رفع البنطلون من عند الركبة , تنظر خجلة لأحداهما , ثم تواصل خطواتها نحو مكتبها .
كان قد صمتا الزميلان عن دخولها , ثم بعد لحظات , استأنف أحدهما الحديث : هل المسألة رفض للمبدأ أم للطريقة فى حد ذاتها؟
الأخر مترددا : الطريقة ....و المبدأ أيضا , لا أعلم , فقط لا أتصور نفسى حاملا علبة شيكولاتة , ذاهبا لزيارة ناس لا أعرفهم ,و بعد ساعتين من الثرثرة , أقرر ان كنت سأتزوج ابنتهم أم لا .
تتدخل هى بعد أن استقرت على كرسيها : فعلا , أنت على حق , لا أتصور نفسى متزوجة بهذه الطريقة أيضا , بالتأكيد ستجد فى من حولك الفتاة المناسبة لك , حتى و ان لم تدرك هذا الأن .
لا يرد عليها و يلتفت لصديقه : غالبا سأتحايل على الموقف , و أتهرب من الذهاب معهما.
بعد انتهاء مواعيد العمل , تتقدم نحو مكتبه قائلة : يجب أن تبقى معى ساعة اضافية لننهى كتابة الملفات.
يجمع هو أغراضه , ملقى الجاكيت وراء ظهره ماسكا طرفه بيد , و يبحث عن محفظته باليد الأخرى , يرد و لا يشيح عينه عن مكتبه : أنا أجلس ساعة اضافية لانهاء الملفات ؟! أنا كنت سأنصرف ساعة مبكرا.
: و الملفات ؟!
يمضى نحو الباب مديرا ظهره لها و يقول : انجزى نصفهم , و اتركى لى النصف الأخر غدا.
**********
لماذا تفعل بى هذا؟! حتى عندما يتحدث معى , وهذا نادر جدا , يكون منشغلا بأى شىء أخر , أنا لى شهرين أدعوك أن تجعله يهتم بى بمقدار ما يهتم ب "عم سيد " الساعى , لا يا رب كثير على تحمل هذا , أنا أصلى بانتظام , نعم أصلى و أحفظ القرأن , لم لا تجيبنى الى ما طلبت ؟! , كل الناس يأتى عليهم وقت و تلبى دعواتهم , أنا كنت فى ابتدائى التلميذة الغبية , و فى اعدادى المنفرة , و فى ثانوى ذات الشعر الخشن و العيون الضيقة , حتى فى الكلية لم أكون أى علاقة بأى شاب , اكرمنى هذه المرة , ليس من المعقول أن أكمل الثلاثين و أنا غير متزوجة .
أتظن أنه ينقصنى الاهتمام بمظهرى؟؟ , و الله فعلا , على العموم يا رب أكيد اهتمامى بمظهرى لن يغضبك خاصة أنه بغرض الزواج فى النهاية , يا رب اجعل فى القبول يا رب.
تنهض من وضع السجود , تقول الشهادة ثم تسلم.
*********
: صباح الخير
تتحرك بخطوات سريعة نحو مكتبها , ترمقه بنظرة خاطفة قبل أن تسحب كرسيها من المكتب.
يحملق فيها الاثنان فى دهشة , و يقول لها صديقه قاطبا حاجبيه : و لما التجديد اليوم ؟!
- تجديد؟ !! أنا من زمان أرتدى الجيبات , لكن ظروف العمل تجعلنى عملية أكثر . ثم تعيد النظر له مرة أخرى , و لكن تركيزه كان مع الكمبيوتر.
قامت من جلستها , و أخذت تستعرض بلوزتها الوردية , و الجيب القصيرة التى تكشف عن ساقيها النحيلتين جيئة و ذهابا , و لكنها لم تظفر سوى بتلك النظرة المندهشة فى بداية اليوم.
هى: أنهيت أمر الملفات؟!
: بعضها , سأؤجل المتبقى للغد.
هى باسمة : أنت من من يؤجلون أعمالهم اذن!
بعد دقائق, يلتفت لها قائلا : امض لى معك فى الدفتر , لأنى سأخرج قبل ميعاد الانصراف بنصف ساعة.
**********
لا , لا , الأمر غير محتمل , سأظل طوال عمرى أبكى فى الصلاة , غير معقول ! أنه حتى لا يتقبلنى كزميلة , أنت يا رب لم تجعل فى القبول , أنت جعلت فى النفور , لماذا ؟!! ما الذنب العظيم الذى تعاقبنى عليه باستمرار ؟! , أنا كرهت نفسى و كرهته , و كرهت توسلاتى لك الغير مجدية , غير مجدية بالمرة ............. استغفر الله , سامحنى يارب لا أقصد ما تظن , ولكنه صعب على أن أعيش مثل الصفر على شمال كل واحد , ثم أننى اشتريت ملابس جديدة , و ذهبت للكوافير فى أول مرة من سنتين , و أكلمه برقة شديدة , فيما قصرت ؟! .... أه , ممكن تكون غاضب منى بسبب موضوع الجيب القصيرة , فعلا أنا سلكت طريقة تجلب الذنوب , أنا أسفة , أنا اهتديت و الله , و عرفت الطريق السليم . اجعله من نصيبى يا رب .
تنهض من وضع السجود , تمسح عينيها المبتلتين بطرف كمها تقول الشهادتين و تسلم .
**************
: السلام عليكم .
تقولها , و تتحرك مسرعة , منكسة رأسها , و مصوبة نظراتها للأرض , تضع ما تحمله من اوراق على حافة مكتبها , وتسحب كرسيها و تجلس غير رافعة نظرها عن الأوراق .
تتملكه نوبة من الضحك الهيستيرى , و صديقه يحملق فيها فاتحا جفنيه لأقصى ما يستطيع أن يفتحهما , ثم يقول : م ... مبروك .
هى : لماذا؟
ترتفع ضحكات الأخر من جديد , فيرد الصديق : الحجاب , أو الخمار تقريبا .
ترمق الضاحك غاضبة : ربنا يهدى من يشاء .
بعد قليل تنهض من مكانها , تتجه نحو مكتبه , و تحاول تنحيف صوتها قدر استطاعتها قائلة : فى – ان شاء الله - أمسية دينية يوم ..
يكتم ضحكته و يحاول السيطرة عليها بضم شفتيه داخل فمه .
- فى حاجة ؟!
- لا , لا , معاك , تقولين فى أمسية دينية ...
تقول متصنعة الشفقة : لا تقلق , عادة ما يهدى الله المرأة , أولا .
يكون هو وقتها فى ذروة اندماجه مع (جيم) على الموبايل و يرد عليها بهدوء : فعلا , فعلا .
: أتركك أنا لألعابك هذه , و أسفة لمقاطعتك . (تمشى غاضبة) .
و يرد عليها على غير ما توقعت : لا, و لا يهمك .
********************
أعتقد أنك مللت و أنا أيضا مللت , واضح أن فى مرضاتك أو اغضابك نفس النتيجة بالنسبة له , و لما له ؟! نستطيع أن نقول بالنسبة لى , قلت لنفسى , هم يحبون المتدينة حتى و ان كانوا كفرة , خاصة عند اختيار الزوجة , لماذا يلحقنى الفشل فى كل شىء ؟! و لماذا لا تمنعه؟! ينقصنى العنوسة أنا فوق مشكلاتى الأساسية , ثم بعيدا عن الزواج , لماذا لا يعجب بى كفتاة ؟! و لماذا لا تمنع احباطاتى المتكررة فى كل شىء ؟! أنا يأست من نفسى , و من أن تساعدنى , أحلال فى المعاناة ؟!
لا , أخبرنى , هى حلال فى ؟! اذن خلصنى منه , و من اهتمامى به أصلا طالما لا تريده حتى أن يحترمنى , خلصنى منه , و على فكرة ملحوظة صغيرة , أقل منى فى الشكل و التعليم و الأخلاق , و حظهم أحسن , تسلم و تنسى الشهادة .
******************
تدخل مكتبها حاملة بعض الأوراق , تتعثر فى البنطلون كعادتها السابقة , تضع أوراقها , و لا تجلس على الكرسى , بل تجلس فوق مكتبها و تدعى قراءة صحيفة , لم يقذفها أى منهما بنظرات التعجب هذه المرة , يبدو أنهما اعتادا التجديد .
: يعنى أنا مدعو للحفل و لا الأمر عائلى ؟
: لا , طبعا , تعالى , أنا تقريبا دعوت طوب الأرض.
تتدخل هى متوجسة : ما المناسبة ؟
صديقه : خطوبته الأسبوع المقبل , تصورى! , من كان يلعن زيجات الصالونات .
لا تقول هى شيئا , لا تقول أى شىء على الاطلاق , ترفع رأسها لأعلى , تتكون على عينيها طبقة شفافة لامعة من الدموع , تغمض عينيها و تتساءل فى سرها : أنا نسيت أصلى الفجر , أم ماذا ؟!
**********************