تكرار نفس الموقف جعلنى أتساءل كيف تسنى لمحمود سعيد تأمل وجوه المصريين و من ثم تجسيدها و التعبير عنها؟؟؟.
تأمل الأخرين من أصعب ما يكن .
التأمل ليست بعملية تقوم بها بشكل ارادى فى معظم الأحوال , و لا يجب أن تتمحور حول سؤال وجودى من نوعية ( أنا جيت الدنيا ليه ؟؟) , فأى أمر لا يعنيك من قريب او بعيد و تقطع من وقتك بضع دقائق للتفكير فيه هو فعل تأملى , حتى وان كان ما حدث معى منذ أيام عندما كنت فى وضع استرخاء و أمامى البحر و أخذت أتأمل فى وجوه الناس و الطريقة التى يتحركون بها فى الماء , ملابسهم , طريقة سباحتهم , طريقة تعاملهم مع بعضهم البعض خاصة هؤلاء الذين لا يعرفون بعض حتى أن لاحظت رجل بدين يرتدى مايوه مزكرش بنفس النقوش الموجوده على عوامة ابنته ذات العامين من العمر, ما يلفت النظر هو أولا : الأب يرتدى مايوه يليق بطفلة فى الثالثة من عمرها , ثانيا : يعوم أو أقصد يتحرك فى الماء بمرح طفولى شديد , ثالثا: على الرغم كل مظاهر البهجة الطفولية سواء فى حركته فى الماء أو فى ملابسه الى أن يعلو وجهه نظرات حزينة جدا .
هذا الأب ذو الثلاثين من العمر و ربما أكثر لاحظ نظراتى له و تصور أننى معجبة ولهانة, و تصور أيضا أنه أحمد عز فى بادىء الأمر و استمتع للحظات بنظرات المعجبات ( أقصد المعجبة الوحيدة ) من حوله ثم أخذه ضميره و تقمص دور شكرى سرحان فى فيلم "شباب امرأة " محاولا مقاومة اغراءات تحية كاريوكا - التى وجب على ان تقمص دورها وقتها لننتهى من تصوير الفيلم و المنتج يكسب - و التأكيد على أنه طالب ملتزم و ليس له فى ألاعيب تحية . و على الرغم من هذا ظل محملقا فى طوال اليوم -فى استياء و هذا الغريب فى الأمر - و نتيجة لذلك ظللت أنا أيضا أشعر بأنى مراقبة فأعيد النظر اليه و بقى الوضع هكذا طوال اليوم فاضطررت أن أعدل وجهتى و أجلس ظهرى للبحر حتى لا يتمادى أكثر من هذا فى تصور أنه شكرى سرحان .
ممتع جدا أن تتأمل البشر و تعبيرات وجوهم دون أن يلاحظوك و خاصة و ان كان الأخرون هم أيضا فى لحظة تأمل , و حظر النظر هذا أمر مزعج للغاية يجبر كثيرون و خاصة الفتيات بأن يسيروا فى الشارع بوجوه أليه و تعبيرات متحجرة مقاومين رغبة قوية فى تفحص من حولهم من باعة و مارة و مبانى و مجارى و خضرة نتمنى وجودها .
فستكتشف أن "الرزقية " على الرصيف لا ينفكون عن الضحك و الابتسام ببله للمارة و دائما ما تعلو وجوههم نظرات الجوع , و أنواع مختلفة من الجوع , قد يكون جوع البطن احداها و لكنه فى الأساس جوع للصراخ ,جوع لأن يعلن عن وجوده , و جوع شديد للجنس لا يستطيع أن يتحكم فيه كما يفعل أقرانه من بنى البشر المتعلمين أو ممن لحقهم بعض مظاهر التمدين , و دهشت مرة للغاية غندما رأيت واحدا منهم مرة ينظر لكاوتش عجلة سيارة نظرة جنسية بحتة لدرجة تجعل الناظر له يتصور وجود راقصة تؤدى نمرة تحت عجلات السيارة و ليس مجرد اطار مطاطى و من تحته أسفلت .
كذلك جموع المثقفين فى الحفلات و المعارض و الذين يجمعهم نظراتهم المتسائلة و الواثقة فى أن واحد , و أبرز ما فيها أنها متكلفة و مصطنعة فى أغلب الحالات , هذا الاصطناع و التكلف لا يوجد فقط فى أعينهم و ملابسهم ذات الطرز و الأشكال المتشابهة و لكنه امتد ليشمل طريقة تذوقهم للفن بل يحدد تلك النوعية التى يتقبلوها من تلك التى ينبذوها , فتتهلل أساريرهم عندما يشاهدوا لوحة لا يفهموا منها شيئا و تعلن وجوهم حالة من التقدير - سواء حقيقى أم لا - لعدم تمكنهم من استيعاب هذا العمل الأدبى المعقد , و ينظروا بعين الازدراء لما يعتبروه كما قال لى أحدهم مرة : ده أى حد ممكن يفهم رواياته , فين التميز اللى عنده .
و طالبات الثانوية بنظراتهن المتهكمة الساخرة الموجهة لكل من حولهن و خاصة السيدات الأنيقات و طالبات الجامعة , نظراتهم فى غاية الاستهتار و راحة البال يتمتعن بقدر من الامبالاة يحسدن عليه فهن - كما كنا نحن - لا يبالين بالطريقة التى يسرن بها فى الشارع , أو حدة صوتهن أو مدى ملائمة استخدام أقذع السباب فى أى موقف و مكان ( مرة فى الثانوية انقطعت جيب صديقة لنا و ظللنا طوال الطريق نخبر كل من يمر بجانبنا بداية من عامل القمامة حتى رجل وقور فى سارة مرسيدس بأنها غطت خصرها بالجاكيت لأن السوستة مفتوحة ) .و نفس هؤلاء الفتيات يصبحن بعد شهور طالبات جامعيات و تتغير نظرات عيونهن من جرأة و بساطة الى محافظة و تكلف حتى فى خطوات مسيرهن فى الشارع .
لا يتسنى لك متابعة ما حولك من ناس و أماكن لوجود جدار عازل وهمى نتحرك داخل حدوده الضيقة و يفرض علينا نمط معين من التعبيرات يجب أن يرتسم على وجهونا و قيود معينة يجب أن تتحرك عيوننا وفقها , و من ثم عقولنا .
هل نستفيد شىء من تفحص ما حولنا , أو ما أصر على تسميته تأمل ؟؟.
ليس بالضرورة ....
يكفى أن يتلذذ عقلك بقدرته على تكوين ملاحظات على حوله , و يكفيه أن يعلن وجوده و يمنحك أجازة قصيرة من وطأة التفكير فى حالك.