الثلاثاء، 5 يناير 2010

استفت قلبك

قررنا أنا و صديقتى ان نذهب لاحضار وجبة خفيفة فى وقت العصر تقريبا , انتهزنا فترة الاستراحة ما بين الاجتماعين و خرجنا من المبنى . قالت : قدامنا 10 دقايق , بصى احنا نلحق فى البريك ده نروح الكافيه اللى جنبنا نجيب حاجة نكلها بسرعة و نرجع , بس ناخد تاكسى و احنا راجعين عشان نلحق نوصل on time . - ماشى . دخلنا الكافيه سلمنا على أصدقاء قابلناهم بالصدفة , منهم واحدة لم أسعد بلقائها أبدا , خرجنا من المكان و قالت لى صديقتى : نوقف تاكسى بقى , مفيش وقت . - لا انا عايزه أرجع مشى . - مفيش وقت للمشى . - مليش دعوة ان شاء الله يولعوا فينا , أنا راجعه مشى , و ايه رأيك بقى ح أرجع من الشارع ده بالذات . - اشمعنى ؟؟.. · لم أكترث بمنحها تبرير لأنى لا أملك تبريرا بالفعل , تبعتنى صديقتى متسائلة : الرصيف مكسر , ليه مشتينا من هنا ؟!. - مش عارفه , بس جالى احساس انى لازم أرجع مشى و من السكة دى بالذات . أخذت تضحك منى ... لما أبلغنى حدسى بأن أذهب متأخرة و أسير فى طريق معين ؟ لا , أعلم . الموقف بسيط للغاية و لكن الغريب فيه و ما جعلنى أرويه الأن هو أننى شعرت وقتها أن قوى ما خفيه هى التى تتحكم فى تصرفاتى , و انتشيت لهذا الشعور . · لنعود بالأمر خطوات للوراء ... · من الممكن أن نقسم حياة الانسان الى مرحلتين حتى الأن ( أقول حتى الأن لأنى لم أمر بمرحلة ثالثة بعد ) الأولى هى تلك التى تتسم ب " البلطجة " , أى البلطجة على ما حولنا من ظروف و أشخاص و أشياء .. هى المرحلة التى تظن فيها أنك المتحكم الأوحد و صاحب اليد العليا فوق ما يخصك , و هذا أمر لا علاقة له بدرجة الايمان و لكنه أقرب لاحساس عالى بالمسؤولية و رفض تام لوجود هذا الجزء المجهول فى حياتنا ... المرحلة الثانية تصبح فيها ممن نقول عنهم ( ماشى بالله ) يصاحبك شعور منذ دخولك فى هذه المرحلة بأنك جزء من كل و ليس الكل المتحكم فى الكل ( معلش امسحوا الجملة الأخرانية دى فيا انا ). بالطبع التغيير لا يكون حدى , أى نعم قد يكون فى بدايته حدى و لكن بعد ذلك تخلق أنت - بدون قصدا منك - حالة من التوازن بين الاثنين . - لماذا يحدث هذا التحول من الأساس ؟؟ ... يحدث رغما عنك , فأثناء اندفاعك كقطار سريع فى حياتك , يرسل لك القدر سيدة مسنة تحاول العبور , أو يحدث عطل مفاجىء فى المحركات أو تصطدم رغما منك فى قطار أخر مندفعا فى الاتجاه المعاكس . أى أن رؤيتك لحتمية تحكمك التام فى ما حولك تتغير بحدوث أزمة ما , قد تحدث لك , قد تحدث لشخص قريب منك , و لكن المؤكد أن هذه الأزمة ستصطدمك بحقيقة قد تعلمها و لكن لا تصدقها و هو أن هناك دائما قوى اعلى منا جميعا . ما علاقة الحدس بهذا ؟؟ · المعنى المعجمى لكلمة ( حدس ) متناقض الى حد ما , فأصل الكلمة حدس بمعنى : مضى على غير استقامة , و فى الأمر و نحوه : ظن و خمن . بينما معنى كلمة ( حدس ) كاسم فهو : ادراك الشىء ادراكا مباشرا . الغريب أن ادراكك للشىء ادراكا مباشر لا بد و بالضرورة أن يجعله يقينى بالنسبة لك و ليس مجرد ظن و تخمين . و لكن من عجائب اللغة العربية أن الكلمة قد تتسع للمعنى و ضده . و سواء هو ظن و تخمين أو ادراك مباشر , فستحب فى النهاية أن يكون بالنسبة لك ( الحقيقة )... فالحدس هو العصا التى تتكأ عليها فى مرحلتك الجديدة ... فالى جانب ايمانك بأن مجهولك ليس كله ملكك .. ستتجه الى أن تعتمد على حدسك قليلا لتبرر لنفسك فى ذات الوقت هذا القدر من الروحانية الجديد عليك. أنحنى احتراما للحدس ... و أقدره.. أقتنع بأنه( اشتباه فى الحقيقة ) , الاشتباه الوحيد فى الحقيقة الذى نملكه , فقد تنكر كروية الأرض و تصدق حدسك فى أنها مستطيلة لأن الحدس سيظل على الأقل حقيقتك أنت ( بغض النظر عن أنه فى الحقائق العلمية يفضل أن يتجاهل المرء حدسه تماما ) . هذا القدر من الروحانية ( و التى ليست مقترنة باحساس دينى و ان كان من شأنها أن تقربك أكثر من ربك ) مدعومة بالحدس هى بمثابة معالج لعملية تحكيم العقل و لا شىء غير العقل , فنوعية النشاطات التى نمارسها , الأخبار التى نتلقاها , الواجبات المفروض علينا تأديتها كلها تتطلب أن يكون عقلك هو الحل ... و عقلك لا يمنحك متنفسا للتصالح مع هذا المحهول الذى يحاول الحدس بطريقة سلمية تلمس الطريق اليه . و لا يجب أن يسيطر حدسك عليك أكثر من الازم لاننا نستلذ الاستسلام له عندما يكون متنفسا فقط , لا عندما يحركنا بصفته قائدا ... و أنت تتبعه لا لأن تسعد بقولك " احساسى طلع فى محله " فهو يخيب بقدر ما يصيب , و لكنه محاولة منك لازاحة حمل ثقيل و هو حمل حتمية ( وعيك - ايجادك لحلول - و التخطيط المسبق ) لكل شىء . عندما تدخل هذه المرحلة , تترك مقاليد أمور كثيرة مهما بلغت بساطتها أو خطورتها فى يد القوى الأعلى مننا - بالنسبة لى الله - فقد تكون على علم مثلا بميعاد مقابلة للحصول على وظيفة قبلها بأسبوعين و تقرر ألا تقرر أو حتى تفكر فى اقتراحات لما سوف ترتديه و تقول لنفسك " اللى ح أختاره قبلها بنص ساعة هو ده اللى ح يبقى الصح " . بالطبع تحولك هذا يتجلى فى أمور أكبر ( ولكنك تلاحظه فى نفسك فى الامور الأصغر ) كأن تستمر فى العمل بمجال لا تحبه أو لا تتحقق من خلاله فقط لأن حدسك يخبرك بأنه سيقودك لشىء ما أفضل تجهله , و أن هذه المجال الذى لا تتحقق من خلاله هو مجرد جسر يخفى وراءه مفاجأة كبيرة تنتظرك . و فى حالة ما أخفق حدسك ستبرر لنفسك هذا بمهارة شديدة , فبعد أن عدنا للاجتماع متأخرتان أنا و صديقتى كما حكيت لكم فى البداية , أعادت لى السؤال : يعنى وسخنا الجزم عشان خاطر سيادتك تمشى على الرصيف المكسر ده ...ليه؟. - قلت لها : "بصى أنا لما شفت فى الكافية مروة اتضايقت .. بس مكنتش ح أقولك , لما رجعت للاجتماع مشى كان عندى وقت كفاية أتصالح فيه شوية مع اللى مزعلنى من مروة و ادانى الوقت ده فرصة أفكر فى الموقف تانى ... يمكن ربنا ادانى الوقت ده عشان أفكر فى الموضوع ده " . نظرت لى فى ذهول كما لو كنت جننت فجأة ... ردى لا يخلو من سذاجة واضحة ... و لكن هكذا كان يجب أن أقول لنفسى و لصديقتى.. بعدها بأيام قليلة كلمتنى صديقتى هذه فى التليفون منفعلة : انتى منك لله , أم الروقان اللى انتى فيه جاب لى الكافيه ... - ليه؟؟. - عملت يا اختى زيك , و أنا رايحة الشغل سبت نفسى لهبلى , و قلت أنى عاوزه أتمشى شوية عشان أطول على نفسى السكة و قال ايه أفكر ... أنا عارفه ايه اللى مشانى فى زقاق عمرى ما دخلته قبل كده , و و لا كان على سكتى أساسا ... قام طلع عليا واحد بمطوة و ثبتنى و خد منى الموبايل .. - خلاص متزعليش نفسك , أهو نصيب الحرامى .. - فردت على بلفظ يحاسب عليه القانون . و لمن لا يرى أنه ( الحدس ), أقول أن كلنا لدينا نسخة أخرى منا أبسط و أقل تعقيدا , سمها الحدس , سمها كما شئت ... و لكنها موجود و ان كنا نختلف فى درجة تصالحنا معها .